كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأنت تعلم أن كون الخطاب لعامة الكفرة خلاف الظاهر، وحمل الفعل الماضي على ما يعم الماضي والمستقبل كذلك وفيما ذكره أيضًا بعد عن سبب النزول، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله تعالى فنزلت: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ} الآية ولا يتأتى معه الاستدلال بالآية على صحة أمر الخلفاء أصلًا، ولعله لا يقول به ويستغنى عنه بما هو أوضح دلالة، وعن ابن عباس ومجاهد عامة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأطلقًا الأمة وهي تطلق على أمة الإجابة وعلى أمة الدعوة لكن الأغلب في الاستعمال الاطلاق الأول فلا تغفل، وإذا كانت من بيانية فالمعنى وعد الله الذين آمنوا الذين هم أنتم {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض} أي ليجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم أو خلفاء من الذين كانوا يخافونهم من الكفرة بأن ينصرهم عليهم ويورثهم أرضهم، والمراد بالأرض على ما قيل جزيرة العرب، وقيل مأواه عليه الصلاة والسلام من مشارق الأرض ومغاربها ففي الصحيح «زويت لي الأرض فاريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها» واللام واقعة في جواب القسم المحذوف ومفعول وعد الثاني محذوف دل عليه الجواب أي وعد الله الذين آمنوا استخلافهم وأقسم لستخلفنهم، ويجوز أن ينزل وعده تعالى لتحقق انجازه لا محالة منزلة القسم وإليه ذهب الزجاج ويكون {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} منزل منزلة المفعول فلا حذف.
وما في قوله تعالى: {كَمَا استخلف} مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر محذوف أي ليستخلفنهم استخلافاف كائنًا كاستخلافه {الذين مِن قَبْلِهِمْ} وهم بنوا اسرائيل استخلفهم الله عز وجل في الشام بعد إهلاك الجبابرة وكذا في مصر على ما قيل من أنها صارت تحت تصرفهم بعد هلاك فرعون وإن لم يعودوا إليها أو هم ومن قبلهم من الأمم المؤمنة الذين أسكنهم الله تعالى في الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين.
وقرئ {كَمَا استخلف} بالبناء للمفعول فيكون التقدير ليستخلفنهم في الأرض فيستخلفون فيها استخلافاف أي مستخلفية كائنة كمستخلفية الذين من قبلهم {وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ} عطف على {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} والكلام فيه كالكلام فيه، وتأخيره عنه مع كونه أجل الرغائب الموعودة وأعظمها لما أنه كالأثر للاستخلاف المذكور.
وقيل: لما أن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل فتصدير المواعيد بها في الاستمالة أدخل، والتمكين في الأصل جعل الشيء في مكان ثم استعمل في لازمه وهو التثبيت والمعنى ليجعلن دينهم ثابتًا مقررًا بأن يعلى سبحانه شأنه ويقوى بتأييده تعالى أركانه ويعظم أهله في نفوس أعدائهم الذين يستغرقون النهار والليل في التدبير لإطفاء أنواره ويستنهضون الرجال والخيل للتوصل إلى إعفاء آثاره فيكونون بحيث ييأسون من التجمع لتفريقهم عنه ليذهب من البين ولا تكاد تحدثهم أنفسهم بالحيلولة بينهم وبينه ليعود أثرًا بعد عين.
وقيل: المعنى ليجعله مقررًا ثابتاف بحيث يستمرون على العمل بأحكامه ويرجعون إليه في كل ما يأتون وما يدرون، وأصل التمكين جعل الشيء مكاناف لآخر والتعبير عن ذلك به للدلالة على كمال ثبات الدين ورصانة أحكامه وسلامته عن التغيير والتبديل لابتنائه على تشبيهه بالأرض في الثبات والقرار مع ما فيه من مراعاة المناسبة بينه وبين الاستخلاف في الأرض انتهى، وفيه بحث، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم مع التشويق إلى المؤخر ولأن في توسيطه بينه وبين وصفه أعني قوله تعالى: {الذى ارتضى لَهُمْ} وتأخيره عن الوصف من الاخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى، وفي إضافة الدين وهو دين الإسلام إليهم ثم وصفه بارتضائه لهم من مزيد الترغيب فيه والتثبيت عليه ما فيه {وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ} بالتشديد، وقرأ ابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف من الإبدال، وأخرج ذلك عبد بن حميد عن عاصم وهو عطم على {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أَوْ} {وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ} بمقتضى البشرية في الدنيا من أعدائهم في الدين {مِنَ} لا يقادر قدره، وقيل: الخوف في الدنيا من عذاب الآخرة والأمن في الآخرة ورجح بأن الكلام عليه أبعد من احتمال التأكيد بوجه من الوجوه بخلافه على الأول.
وأنت تعلم أن الأول أوفق بالمقام والأخبار الواردة في سبب النزول تقتضيه وأمر احتمال التأكيد سهل.
{يَعْبُدُونَنِى} جوز أن تكون الجملة في موضع نصب على الحال إما من {الذين} الأول لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد لأن ما في حيز الصلة من الإيمان وعمل الصالحات بصيغة الماضي لما دل على أصل الاتصاف به جيء بما ذكر حالا بصيغة المضارع الدال على الاستمرار التجددي وإما من الضمير العائد عليه في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} أو في {ليبدلنهم} وجوز أن تكون مستأنفة إما لمجرد الثناء على أولئك المؤمنين على معنى هم يعبدونني وإما لبيان علة الاستخلاف وما انتظم معه في سلك الوعد، وقوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا} حال من الواو في {يَعْبُدُونَنِى} أو من {الذين} أو بدل من الحال أو استئناف.
ونصب {شَيْئًا} على أنه مفعول به أي شيئًا مما يشرك به أو مفعول مطلق أي شيئًا من الإشراك.
ومعنى العبادة وعدم الإشراك ظاهر.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله سبحانه: {يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا} لا يخافون أحدًا غيري، وأخرج هو وجماعة عن مجاهد نحوه.
ولعلهما أراد بذلك تفسير {لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا} وكأنهما عدا خوف غير الله تعالى نوعًا من الإشراك، واختير على هذا حالية الجملة من الواو كأنه قيل: يعبدونني غير خائفين أحدًا غيري، وجوز أن يكونا قد أرادا بيان المراد بمجموع {يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ} الخ وكأنهما ادعيا أن عدم خوف أحد غيره سبحانه من لوازم العبادة والتوحيد وأن جملة {يَعْبُدُونَنِى} الخ استئناف لبيان ما يصلون إليه من الأمن كأنه قيل: يأمنون إلى حيث لا يخافون أحدًا غير الله تعالى ولا يخفي ما في التعبير بضمير المتكلم وحده في {يَعْبُدُونَنِى وَلاَ أَحْسَنَ بَى} دون ضمير الغائب ودون ضمير العظمة من اللطافة.
{وَمَن كَفَرَ} أي ومن ارتد من المؤمنين {بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد حصول الموعود به {فَأُوْلَئِكَ} المرتدون البعداء عن الحق {هُمُ الفاسقون} أي الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان إذ لا عذر لهم حينئذ ولا كجناح بعوضة، وقيل: كفر من الكفران لا من الكفر مقابل الإيمان وروي ذلك عن أبي العالية وكما لهم في الفسق لعظم النعمة التي كفروها، وقيل: ذلك إشارة إلى الوعد السابق نفسه، وفي إرشاد العقل السليم أن المعنى ومن اتصف بالكفر بأن ثبت واستمر عليه ولم يتأثر بما مر من الترغيب والترهيب بعد ذلك الوعد الكريم بما فصل من المطالب العالية المستوجبة لغاية الاهتمام بتحصيلها فأولئك هم الكاملون في الفسق، وكون المراد بكفر ما ذكر أنسب بالمقام من كون المراد به ارتد أو كفر النعمة انتهى.
والأولى عندي ما تقدم فإنه الظاهر، وفي الكلام عليه تعظيم لقدر الموعود به من حيث أنه لا يبقى بعد حصوله عذر لمن يرتد، وقوة مناسبته للمقام لا تخفى.
وهو ظاهر قول حذيفة رضي الله تعالى عنه فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال: كنت جالسًا مع حذيفة وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما فقال حذيفة: ذهب النفاق انما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال: بم تقول؟ قال: بهذه الآية {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} إلى آخر الآية وكأن ضحك ابن مسعود كان استغرابًا لذلك وسكوته بعد الاستدلال ظاهر في ارتضائه لما فهمه معدن سر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآية.
و{مِنْ} تحتمل أن تكون موصولة وتحتمل أن تكون شرطية وجملة {مَن كَفَرَ} الخ قيل معطوفة على جملة {وَعَدَ الله} الخ أو على جملة محذوفة كأنه قيل: من آمن فهم الفائزون ومن كفر الخ، وقيل: إن هذه الجملة وكذا جملة {يَعْبُدُونَنِى} استئناف بياني أما ذلك في الأول فالسؤال ناشىء من قوله تعالى: {وَعَدَ الله} الخ فكأنه قيل: فما ينبغي للمؤمنين بعد هذا الوعد الكريم أو بعد حصوله؟ فقيل: يعبدونني لا يشركون بي شيئًا.
وأما في الثانية فالسؤال ناشىء من الجواب المذكور فكأنه قيل فإن لم يفعلوا فماذا؟ فقيل: ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وجزاؤهم معلوم وهو كما ترى.
هذا واستدل كثير بهذه الآية على صحة خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم لأن الله تعالى وعد فيها من في حضرة الرسالة من المؤمنين بالاستخلاف وتمكين الدين والأمن العظيم من الأعداء ولابد من وقوع ما وعد به ضرورة امتناع الخلف في وعده تعالى ولم يقع ذلك المجموع إلا في عهدهم فكان كل منهم خليفة حقا باستخلاف الله تعالى إياه حسبما وعد جل وعلا ولا يلزم عموم الاستخلاف لجميع الحاضرين المخاطبين بل وقوعه فيهم كبنو فلان قتلوا فلانًا فلا ينافي ذلك عموم الخطاب الجميع، وكون من بيانية، وكذا لا ينافيه ما وقع في خلافة عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما من الفتن لأن المراد من الأمن الأمن من أعداء الدين وهم الكفار كما تقدم.
وأقامها بعض أهل السنة دليلًا على الشيعة في اعتقادهم عدم صحة خلافة الخلفاء الثلاثة، ولم يستدل بها على صحة خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه لأنها مسلمة عند الشيعة والأدلة كثيرة عند الطائفتين على من ينكرها من النواصب عليهم من الله تعالى ما يستحقون فقال: إن الله تعالى وعد فيها جمعًا من المؤمنين الصالحين الحاضرين وقت نزولها بما وعد من الاستخلاف وما معه ووعده سبحانه الحق ولم يقع ذلك إلا في عهد الثلاثة، والإمام المهدي لم يكن موجودًا حين النزول قطعًا بالإجماع فلا يمكن حمل الآية على وعده بذلك، والأمير كرم الله تعالى وجهه وإن كان موجدًا إذ ذاك لكن لم يرج الدين المرضى كما هو حقه في زماه رضي الله تعالى عنه بزعم الشيعة بل صار أسوأ حالًا بزعمهم مما كان في عهد الكفار كما صرح بذلك المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام بل كل كتب الشيعة تصرح بأن الأمير وشيعته كانوا يخفون دينهم ويظهرون دين المخالفين تقية ولم يكن الأمن الكامل حاصلًا أصلًا في زمانه رضي الله تعالى عنه فقد كان أهل الشام ومصر والمغرب ينكرون أصل إمامته ولا يقبلون أحكامه وهم كفرة بزعم الشيعة وأغلب عسكر الأمير يخافونهم ويحذرون غاية الحذر منهم، ومع هذا الأمير فرد فلا يمكن إرادته من الذين آمنوا ليكون هو رضي الله تعالى عنه مصداق الآية كما يزعمون فإن حمل لفظ الجمع على واحد خلاف أصولهم إذ أقل الجمع عندهم ثلاثة أفراد، وأما الأئمة الآخرون الذين ولدوا بعد فلا احتمالا لإرادتهم من الآية إذ ليسوا بموجودين حال نزولها ولم يحصل لهم التسلط في الأرض ولم يقع رواج دينهم المرتضى لهم وما كانوا آمنين بل كانوا خائفين من أعداء الدين متقين منهم كما أجمع عليه الشيعة فلزم أن الخلفاء الثلاثة هم مصداق الآية فتكون خلافتهم حقة وهو المطلوب.
وزعم الطبرسي أن الخطاب للنبي وأهل بيته صلى الله عليه وسلم فهم الموعودون بالاستخلاف وما معه ويكفي في ذلك تحقق الموعود في زمن المهدي رضي الله تعالى عنه، ولا ينافي ذلك عدم وجوده عند نزول الآية لأن الخطاب الشفاهي لا يخص الموجودين، وكذا لا ينافي عدم حصوله للكل لأن الكلام نظير بنو فلان قتلوا فلاناف، واستدل على ذلك بما روي العياشي بإسناده عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ الآية فقال: هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يد رجل منا وهو مهدي هذه الأمة وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله تعالى ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلًا وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا».
وزعم أنه روي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما وهذا على ما فيه مما يأباه السياق والأخبار الصحيحة الواردة في سبب النزول.
وأخبار الشيعة لا يخفي حالها لاسيما على من وقف على التحفة الأثنى عشرية.
نعم ورد من طريقنا ما يستأنس به لهم في هذا المقام لكنه لا يعول عليه أيضًا مثل أخبارهم وهو ما أخرجه عبد بن حميد عن عطية أنه عليه الصلاة والسلام قرأ الآية فقال: أهل البيت هاهنا وأشار بيده إلى القبلة.